خلاف الجيش والحكومة الإسرائيلية- مستقبل غزة وأهداف الحرب

المؤلف: د. مهند مصطفى10.24.2025
خلاف الجيش والحكومة الإسرائيلية- مستقبل غزة وأهداف الحرب

تفاقم التباين في وجهات النظر بين المؤسسة العسكرية والحكومة الإسرائيلية بشأن مستقبل الحرب الدائرة في قطاع غزة. يرى الجيش الإسرائيلي أن العمليات العسكرية قد استنفدت جميع أهدافها المرجوة، وأنه لم يعد بمقدوره تحقيق المزيد من التقدم، وأن أي إطالة أمد للعمليات العسكرية لن تسفر إلا عن خسائر إضافية دون تحقيق مكاسب حقيقية. هذا المنظور لا يلقى أي قبول لدى الحكومة الإسرائيلية الحالية، بل لا يجرؤ أحد فيها على مجرد التفكير فيه، خاصة في ظل وجود حكومة يمينية متطرفة "ممتلئة" كما يُطلق عليها في إسرائيل.

في ظل تصلب موقف الحكومة، سعى الجيش الإسرائيلي خلال الأسبوعين الماضيين إلى حشد الرأي العام الإسرائيلي بشكل مباشر وغير مباشر للضغط على الحكومة، ويمكن ملاحظة سلسلة من الخطوات التي اتخذها لنقل تصوره للأوضاع للمجتمع تدريجياً.

وعلى سبيل المثال، أكد الجيش الإسرائيلي أنه لا يمكن إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين من خلال العمليات العسكرية، على الرغم من نجاح بعض العمليات المحدودة هنا وهناك، خاصة بعد أن استغل نتنياهو عملية النصيرات لأغراض سياسية بحتة لتعزيز شعبيته وتعطيل أي اتفاق لتبادل الأسرى. كما حاول الجيش الإسرائيلي تطبيق هدنة تكتيكية في رفح خلال عيد الأضحى، لكن الحكومة الإسرائيلية عارضت ذلك بشدة، وذلك بهدف إيصال رسالة مفادها أن استمرار العمليات العسكرية ليس ضرورياً، وأن التوقف المؤقت أمر ممكن.

كما صرح الجيش الإسرائيلي بأنه غير قادر على فتح مواجهة شاملة مع حزب الله اللبناني دون إنهاء العمليات العسكرية في رفح وقطاع غزة بشكل عام، وتحدى الحكومة الإسرائيلية بالتصريح بأن القضاء على حركة حماس غير ممكن على الإطلاق، وأنها جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني، الأمر الذي أثار استياء وغضب الحكومة الإسرائيلية تجاه الجيش بشكل غير مسبوق، لما في ذلك من معارضة صريحة لتوجهاتها الرامية إلى استمرار الحرب حتى القضاء التام على حركة حماس.

وقد تجلى تصعيد الجيش الإسرائيلي في تحديه للحكومة في عدة سياقات سياسية، والتي تشمل:

  • أولاً، نجاح نتنياهو في تهميش قضية التوصل إلى اتفاق لوقف الحرب وتبادل الأسرى، مدعوماً بموقف أمريكي اتهم حركة حماس بإفشال المقترح الأمريكي المقدم، وهو الأمر الذي استغله نتنياهو بشكل جيد لصالحه.
  • ثانياً، خروج حزب "معسكر الدولة" برئاسة بيني غانتس من الحكومة الإسرائيلية، الأمر الذي أضعف الصوت المؤيد للجيش في مجلس الحرب، ليصبح الجيش وحيداً باستثناء دعم وزير الدفاع يوآف غالانت.
  • ثالثاً، تفكيك مجلس الحرب الإسرائيلي واستبداله بمجلس استشاري يحمل توجهات نتنياهو، وقد ينضم إليه إيتمار بن غفير الذي يعادي الجيش الإسرائيلي أيضاً.
  • رابعاً، تبني الحكومة الإسرائيلية لمشروعي قانونين يتعارضان بشكل واضح مع موقف الجيش الإسرائيلي ومقترحاته، وهما قانون الاحتياط الإسرائيلي، وقانون تجنيد المتدينين المتزمتين (الحريديم).

وفيما يتعلق بهذه النقطة الأخيرة تحديداً، فإن وزارة الدفاع الإسرائيلية (بالتنسيق الكامل مع الجيش)، هي الجهة المخولة بتقديم مشاريع القوانين التي تتعلق بالمؤسسة العسكرية. وقد قدمت وزارة الدفاع بالفعل مقترح قانون الاحتياط في شهر فبراير/شباط الماضي؛ بهدف تحسين منظومة الاحتياط في الجيش، ولكن الجيش الإسرائيلي كان يطالب بتوسيع تجنيد "الحريديم"؛ لخلق توازن حقيقي بين قانون الاحتياط، وقانون تجنيد الحريديم. ولكن الحكومة الإسرائيلية تجاهلت هذا المطلب تماماً، وحاولت تحقيق توازن من نوع آخر وذلك عبر تخفيض سنّ الإعفاء من الخدمة في الاحتياط إلى 41 عاماً، وتبني قانون سابق لا يُساهم بأي شكل من الأشكال في توسيع تجنيد الحريديم.

ويبقى لب الخلاف الأساسي، هو موقف الجيش الإسرائيلي الراغب بشدة في إنهاء العمليات العسكرية بعد أن استنفدت جميع أغراضها. ويرى الجيش الإسرائيلي أن على الحكومة الإسرائيلية أن تطرح تصوراً سياسياً شاملاً يُكمل المسار العسكري نحو تحقيق أهداف الحرب المعلنة، بينما ترى الحكومة الإسرائيلية أن استمرار العمليات العسكرية هو الهدف الأسمى بحد ذاته.

وقد بدأ الجيش الإسرائيلي يدرك تماماً أن التصور السياسي الوحيد الذي تملكه الحكومة الإسرائيلية هو إبقائه في قطاع غزة إلى أجل غير مسمى؛ وذلك للتمهيد لفرض حكم عسكري إسرائيلي مباشر قد يُسهل عودة المشروع الاستيطاني الإسرائيلي في القطاع. وبهذا تكون أهداف الحرب من وجهة نظر الجيش قد تحولت بشكل كامل من تحقيق مصالح الأمن القومي الإسرائيلي العليا، إلى تحقيق أهداف أيديولوجية بحتة لليمين المتطرف.

وإذا كانت الضغوط الدولية المتزايدة والاحتجاجات الجماهيرية الحاشدة، والضغط المتصاعد من الجبهة الشمالية، لم تستطع مجتمعة أن تثني الحكومة الإسرائيلية عن مسارها الحالي، فقد رأى الجيش الإسرائيلي أنه لم يبقَ أمامه إلا خيار واحد لا ثاني له وهو التوجه إلى الرأي العام الإسرائيلي لبث قناعاته بشكل مباشر وغير مباشر، لا سيما أن استطلاعات الرأي العام تكشف أنه قد استعاد ثقة الجمهور الإسرائيلي بعد إخفاقه الذريع في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، فقد حلّ الجيش الإسرائيلي في المركز الأول في استطلاع مقياس الديمقراطية لعام 2024م الذي نشره المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، محققاً بذلك ثقة 85% من الجمهور، فيما حلت رئاسة الحكومة الإسرائيلية في المركز الثاني بفارق كبير وبلغ 52٪ فقط.

هنالك نقطة جوهرية لا يمكن إغفالها إطلاقاً عند تحليل العلاقة المعقدة بين المؤسسة العسكرية والحكومة الحالية في إسرائيل، وتتعلق بتحويل الجيش إلى مجرد "مقاول" لتنفيذ سياسات الحكومة. المعضلة الحقيقية تكمن في أن القانون الأساسي للجيش الإسرائيلي لعام 1976م، يُحدد دوره في تنفيذ سياسات الحكومة، وبالتالي فإن الحكومة الحالية لا تخالف القانون بشكل صريح. ولكن الجيش الإسرائيلي لم يكن قبل ذلك مجرد مقاول ينفذ الأوامر وفق ما حدده ذلك القانون، بل كان شريكاً فاعلاً في تحديد سياسات الحكومة في شؤون الحرب والسلام، وكان مؤثراً بشكل كبير على قراراتها المصيرية. ولكنه فقد هذا الدور المحوري في ظل هذه الحكومة الحالية، بل وصل تآكل مكانته إلى الذروة.

والمفارقة العجيبة أن الجيش الإسرائيلي بقي مؤثراً وفاعلاً عندما كانت الحكومات الإسرائيلية السابقة مليئة بالجنرالات السابقين، بينما مكانته ونفوذه آخذان في التآكل المستمر في ظل حكومة ليس فيها إلا جنرال واحد فقط، وأعضاؤها المؤثرون لم يخدموا في الجيش قط: (إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش وقادة الأحزاب الدينية الحريدية). وهذا يفسر الغضب العارم لقادته من رفض مشاريع قوانين التجنيد، حيث يتولى من لا يؤدون الخدمة العسكرية بسبب معتقداتهم الدينية، اتخاذ القرارات المصيرية الخاصة بقوة الجيش وموارده البشرية.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة